ضوء التلفاز الفضي يزيد الوجوه المتعبة المتحلقة حوله شحوبًا .. صاحب
الدكان يكتفي بشمعة تآكل نصفها، لتضيء الأرفف الفارغة عدا من بعض صناديق
البسكويت .. يمد لي سيجارة البرنجي و يحمل الشمعة لينحني لثوان، ثم يعود
ليناولني عملتين حديديتين .. أشعل السيجارة من الشمعة و أقف لأتابع التلفاز
مع الآخرين و أنا أنفث الدخان .. صار وجهي مألوفًا نوعًا ما في المكان ..
همس أحدهم لرفيقه مرة و نحن نقف أمام ذات التلفاز : شوف المان دا يمكن داير
ليهو حاجة .. كانت الساحة من الأماكن المعروفة لبيع البنقو
.. رد رفيقه : لو داير حاجة كان سأل .. علمت فيما بعد أن اسمه عبدو و أنه
فقد ساقه في الحرب .. كعادته لم يكن إسماعيل يملك هاتفًا وقتها .. حين لا
أجده في ورشته أنتظر أمام الدكان، حيث التلفاز يعرض المسلسل دائمًا ..
أترجل من الحافلة بالقرب من موقف شندي، و أقطع المسافة حتى المنطقة
الصناعية سيرًا .. يسكن في غرفة صغيرة أمام الورشة .. يحتل أغلبها سلم يقود
إلى لا مكان، و بابها ستارة من القماش .. "قندهار" كما يسميها .. نجلس
أمامها نحتسي الشاي الساخن الذي يحضّره جعفر و هو يدخن البنقو بشراهة و
يضحك دون سبب فنضحك معه .. الشوارع الساكنة المظلمة تبعث على الحزن ..
الإنتقال اليومي من الحياة و الصخب و الزحام إلى الموت .. في الشتاء نشعل
الأوراق الجافة و بعض الأخشاب من الورشة و نتحلق حولها .. نتحدث عن كل شيء
عدا الأشياء المهمة حقًا .. لكن دائمًا ينتهي الأمر بإسماعيل و هو يحكي عن
حبيبته ذات العينين الدافئتين الواسعتين و اللثغة المحببة .. و كيف جلس على
تل الرمل يتابع حفل زفافها من عل و هو يبكي .. "فلم هندي بس" يقولها
ضاحكًا .. ثم يسرح ببصره بعيدًا فأعلم أن سخريته مجرد كذبة .. في اليوم
التالي لزفافها ودع أهله و حمل حقيبته و استقل البص إلى الخرطوم، و لم يعد
منذها .. هذه الأشياء تحدث حقًا إذن .. بدا لي كرواية تسير على قدمين ..
صارحته بهذا فأخبرني بأني أبله .. في الأعياد يبقى وحيدًا حيث تتحول
المنطقة الصناعية لمدينة أشباح .. أختلس بعض الكعك و قوارير البيبسي من
المنزل .. نجلس أمام الغرفة كالعادة و نتحدث عن كل شيء عدا الأشياء المهمة
حقًا .. يحكي عن البلد بحنين جارف .. ثم يحدثني عن حبيبته ذات العينين
الدافئتين و كيف كانا يلتقيان قرب النهر لتقرأ له قصائدها .. نضع كل يوم
عشرات الخطط عن الأشياء التي سنفعلها غدًا .. ثم نكتفي بالجلوس على صناديق
البيبسي الفارغة و شرب الشاي و التدخين .. عندما يكون مزاجه رائقًا يخرج
ورقة مهترئة و يقرأ لي إحدى قصائدها .. بدا لي شِعرها رديئًا، لكن بريق
عينيه أخبرني أني لا أفقه شيئًا عن الحب .. اختفى فجأة .. قيل لي إنه عاد
إلى البلد أخيرًا .. هاتفني مرتين أو ثلاث .. بدا صوته متعبًا أشيبًا ..
خططت لزيارته هناك ثم تراكمت الأيام و الغبار على القلب و نسيت .. هاتفني
قبل أشهر من سفري، قال إنهم خرجوا للتنقيب عن الذهب و "ربنا وفقهم" و إنه
يبحث عن عمارة في الخرطوم ليشتريها و يرغب أن أساعده .. في حدود الثلاثة
مليارات جنيه .. اختفت نبرة السخرية من صوته .. قال كذلك إنه سيتزوج قريبًا
.. وعدته أن أساعده في البحث، لكني لم أفعل .. مكالمة أخرى .. كنت مشغولًا
بشيء ما فلم أرد، أو هذا ما أدعيته .. سأتصل به غدًا، هكذا حدثت نفسي ..
لم أتصل .. اتصلت حين عدت بعد سنة .. و كالعادة وجدت هاتفه مغلقًا .. لا
أذكر أنه استطاع أن يحافظ على هاتف لأكثر من شهر .. أين يذهب الماضي و كيف
أعرف أن كل هذا حدث حقًا ؟ توقفت منذ فترة عن التساؤل عن مغزى الأشياء ..
لكن الماضي لا وجود له إلا في ما يبقى في القلب من حزن ..