الآن و قد انتهيت و طرحت بهذه الصحائف الضعيفة الناحلة إليك - أنظر فلا أرى غير العدم ..
ستذهب هذه الصحائف فتمضي و تمحي. فهي أنفاسي قد ذهبت و لها ريح ما يبلى و يأكله الدود. كجميع الذين كتبوا من قبل، يظنون أنهم خُلّدوا و أماتوا الموت. و ما خلدوا. و إنما هي آلام الإنسان يترامى صداها من قرن إلى قرن و من جيل إلى جيل، كما يتردد صدى الرعد بين الجبال، فلا يكون للرعد حياة أو ترن الصخور. و ليس لكل رعد صخور تردده. فقد ينفلق بقاع صفصف فلا يصيب من الدوام إلا طرفة العين.
و إن هذا الكتاب لكالصوت أو كالصيحة في واد به حاجة إلى ما يردد صداه و يُسري فيه خلجة الحياة. فقد كتبت أكثره في الليل جعلته دعائي للصباح، و استوفيته و لما يتنفس الفجر.
و ليس لطالب أن يطلب فيه جديدًا من المعاني طريفًا، لأنه لا يكون عندي أطرف مما ينشأ في نفس القارئ عند مطالعته من الأفكار و المشاعر. فلتدخل إليه إذن أيها القارئ بأمرك الباطن و لتنشره عليه، و إلا فلتعرض عنه و لتدعه إلى غبار المكاتب و النسيان. هو دعوة إلى إحياء نارك. فإن لم يحيها من رماد، فقد مات و بطل همك منه.
و إن كان لا بد له من جدة و طرافة لتقبل عليه، فاعلم أنه ليس في نظري أطرف من جدة القديم: كنفسك و أحلامك و أساك و حيرتك. و لعل أجد ما فيه بعد قصتك الباطنة، روح أبي هريرة، لأنها تنتسب إلى أقدم الأقدمين و تود أن تنتسب إليك. و لعله ليس شأن الكاتب الجدة و الطرافة .. و إنما هو أن يفترق على يده الجوهر عن العرض العارض.
و قد يحتاج أبو هريرة عندك إلى التعريف و لست بمعرفه لك. و إنما لك من شأنه ما قد يقع بنفسك عند انتهائك من هذا الكتاب. و لتذكر بيت أبي العتاهية:
و أي امرئ في غاية ليس نفسه
إلى غاية أخرى سواها تطلع
و قول "هولدرلاين": "أتعلم على م حزنك ؟ إنه ليس على شيء مفقود فقدته من زمن معين يمكنك أن تقول متى كان عندك و متى ذهب. إنما هو على شيء لا يزال حيًا قائمًا فيك. هو عهد أسمى من عهدك الحاضر تطلبه، هو عالم أجمل من عالمك هذا .."
و لتذكر نذر "سفر التكوين": "لا تأكل من الشجرة الحرام. فإنك إن فعلت لذائق الموت".
و شأن "نيتشه" يقول : "إذا ذهب صدقي فقد عميت. فإذا أردت المعرفة فقد أردت الصدق، أعني الشدة و التضييق على نفسي و القساوة لا تلين".
إذا قرأت هذا الكتاب فله عليك - في مسيرتك إليك - أن تكون قاسيًا غير رحيم.
محمود المسعدي - تمهيد كتاب "حدّث أبو هريرة قال ..."