أعرف هذه الأيام جيدًا .. الأيام السوداء التي تسبق الأيام الأكثر سوادّا .. ما لا أجد له تفسيرًا أني مازلت أذهب للعمل يوميًا .. لكن الرعب قادم على أي حال .. أرى الظل الأسود الغامض يتربص .. والليل يطول يومًا بعد يوم .. بعد قليل ستجتاز البوابات العتيقة .. وتقف وجهًا لوجه أمام تلك الأشياء .. الرعب الخالص المصنوع لك خصيصًا .. تصنعه بنفسك لنفسك .. لكن هنالك بعض الألفة التي تكونت مع السنين .. الأشباح التي طال أمدها كبرت وأنجبت المزيد من الأسئلة .. صارت أكثر هدوءًا وحكمة .. لكنها مازالت عديمة الرحمة .. أعرف هذه الأيام جيدًا .. وأشعر بالرعب ..
كواركات بنَكهة جذّابة
الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019
الأربعاء، 21 أغسطس 2019
التحديق إلى الهاوية
وكما هو معروف .. فقد حذرنا الأستاذ نيتشة، دون أن يهتز شاربه، من مصارعة
الوحوش .. ومن طول التحديق إلى الهاوية، التي ستبادلنا حتمًا التحديق ..
وهو ممّا لا تحمد عقباه .. مرجعيتك الأخلاقية موضوع آخر بالطبع .. يصر
الوجوديون أننا نستطيع صنع المعنى، بل وقانوننا الأخلاقي .. ثم الالتزام به
.. هكذا نتحرك بحذر على حواف هاوية الحرية المرعبة، عديمة القاع .. أو،
وهو الحل الأسهل، يمكننا أن نفعل ما نفعله كل يوم .. نحاول أن نبقى على قيد
الحياة، ولا نقتل أحدًا، حتى موعد الغداء .. الذي نأمل أن يكون جيدًا .. و
نتفاءل، وهو ما يحتاج إلى الكثير من الشجاعة، أننا سنفيق يومًا من هذا
الحلم المشوش، و سندرك الشيء في ذاته ..
الجمعة، 13 أكتوبر 2017
تمهيد .. محمود المسعدي
الآن و قد انتهيت و طرحت بهذه الصحائف الضعيفة الناحلة إليك - أنظر فلا أرى غير العدم ..
ستذهب هذه الصحائف فتمضي و تمحي. فهي أنفاسي قد ذهبت و لها ريح ما يبلى و يأكله الدود. كجميع الذين كتبوا من قبل، يظنون أنهم خُلّدوا و أماتوا الموت. و ما خلدوا. و إنما هي آلام الإنسان يترامى صداها من قرن إلى قرن و من جيل إلى جيل، كما يتردد صدى الرعد بين الجبال، فلا يكون للرعد حياة أو ترن الصخور. و ليس لكل رعد صخور تردده. فقد ينفلق بقاع صفصف فلا يصيب من الدوام إلا طرفة العين.
و إن هذا الكتاب لكالصوت أو كالصيحة في واد به حاجة إلى ما يردد صداه و يُسري فيه خلجة الحياة. فقد كتبت أكثره في الليل جعلته دعائي للصباح، و استوفيته و لما يتنفس الفجر.
و ليس لطالب أن يطلب فيه جديدًا من المعاني طريفًا، لأنه لا يكون عندي أطرف مما ينشأ في نفس القارئ عند مطالعته من الأفكار و المشاعر. فلتدخل إليه إذن أيها القارئ بأمرك الباطن و لتنشره عليه، و إلا فلتعرض عنه و لتدعه إلى غبار المكاتب و النسيان. هو دعوة إلى إحياء نارك. فإن لم يحيها من رماد، فقد مات و بطل همك منه.
و إن كان لا بد له من جدة و طرافة لتقبل عليه، فاعلم أنه ليس في نظري أطرف من جدة القديم: كنفسك و أحلامك و أساك و حيرتك. و لعل أجد ما فيه بعد قصتك الباطنة، روح أبي هريرة، لأنها تنتسب إلى أقدم الأقدمين و تود أن تنتسب إليك. و لعله ليس شأن الكاتب الجدة و الطرافة .. و إنما هو أن يفترق على يده الجوهر عن العرض العارض.
و قد يحتاج أبو هريرة عندك إلى التعريف و لست بمعرفه لك. و إنما لك من شأنه ما قد يقع بنفسك عند انتهائك من هذا الكتاب. و لتذكر بيت أبي العتاهية:
و أي امرئ في غاية ليس نفسه
إلى غاية أخرى سواها تطلع
و قول "هولدرلاين": "أتعلم على م حزنك ؟ إنه ليس على شيء مفقود فقدته من زمن معين يمكنك أن تقول متى كان عندك و متى ذهب. إنما هو على شيء لا يزال حيًا قائمًا فيك. هو عهد أسمى من عهدك الحاضر تطلبه، هو عالم أجمل من عالمك هذا .."
و لتذكر نذر "سفر التكوين": "لا تأكل من الشجرة الحرام. فإنك إن فعلت لذائق الموت".
و شأن "نيتشه" يقول : "إذا ذهب صدقي فقد عميت. فإذا أردت المعرفة فقد أردت الصدق، أعني الشدة و التضييق على نفسي و القساوة لا تلين".
إذا قرأت هذا الكتاب فله عليك - في مسيرتك إليك - أن تكون قاسيًا غير رحيم.
محمود المسعدي - تمهيد كتاب "حدّث أبو هريرة قال ..."
الأحد، 17 سبتمبر 2017
إلى عيسى .. يجده بخير .. في مكان ما ..
كيف الحال و الأحوال في هذه الفترة الطويلة التي لم نركم فيها .. نحن بخير و لاتنقصنا سوى رؤياكم الغالية .. لو تجاوزنا عن بعض الأحداث السطحية عديمة الأهمية، فكل شيء كما تركته تقريبًا .. استيقظت فجأة قبل يومين في الثانية صباحًا -و هو أمر معتاد بالطبع .. و لم أستطع النوم مرة أخرى - و هو أمر أكثر اعتيادًا .. لكن قلبي كان أجوفًا و روحي متخمة بشعور ثقيل كهواء البحر .. و خطر لي فجأة، و دون سبب واضح، أن علي أن أكتب لك شيئًا ما .. تبدو المدونة مكانًا جيدًا .. بعيدًا و باردًا .. لن يقرأ هذا الكلام أحد في الغالب .. و هو ما أجده مناسبًا .. أعلم بالطبع أنك ستجد الأمر برمته مثيرًا للسخرية .. لكنك تعلم أيضًا أني لا اهتم لرأيك كثيرًا كما أخبرتك مرارًا .. كنا نخوض معركة شرسة في طرف الكلية بسبب مباراة كرة قدم بلهاء كالعادة .. فجأة رأيتك تتقدم من بعيد .. ترمق المتعاركين باستغراب .. ثم تخلع قميصك بهدوء .. تضعه على البينش بعناية .. ثم تقفز وسط المعركة و تبدأ في توجيه اللكمات دون أن تسأل حتى عن السبب .. في الحقيقة لا أظن أنك تعلم ما حدث حتى الآن .. تبدو القصص من هذا النوع مختلقة دائمًا .. لكني أظنها تلخيصًا دقيقًا لحياتك .. سأخوض معك المعركة أولًا ثم أسأل عن السبب .. أو لا أسأل أصلًا .. يمكنني الإستمرار في الكتابة .. لكن في الحقيقة كل ما أقوله هنا لا معنى له كما تعلم .. على كل حال اكتشفت صباحًا أن تلك الليلة توافق تاريخ رحيلك .. تبدو هذه أيضًا قصة مختلقة و مثيرة للسخرية .. يبدو أن الطبيعة تحاكي الفنان فعلًا، و تسخر منه .. أظن أن الشيء الوحيد الممكن، بعد كل هذه الأسطر .. هو أن أعترف أني حزين حقًا، و أفتقدك بشدة ..
الخميس، 4 فبراير 2016
إسماعيل
ضوء التلفاز الفضي يزيد الوجوه المتعبة المتحلقة حوله شحوبًا .. صاحب
الدكان يكتفي بشمعة تآكل نصفها، لتضيء الأرفف الفارغة عدا من بعض صناديق
البسكويت .. يمد لي سيجارة البرنجي و يحمل الشمعة لينحني لثوان، ثم يعود
ليناولني عملتين حديديتين .. أشعل السيجارة من الشمعة و أقف لأتابع التلفاز
مع الآخرين و أنا أنفث الدخان .. صار وجهي مألوفًا نوعًا ما في المكان ..
همس أحدهم لرفيقه مرة و نحن نقف أمام ذات التلفاز : شوف المان دا يمكن داير
ليهو حاجة .. كانت الساحة من الأماكن المعروفة لبيع البنقو
.. رد رفيقه : لو داير حاجة كان سأل .. علمت فيما بعد أن اسمه عبدو و أنه
فقد ساقه في الحرب .. كعادته لم يكن إسماعيل يملك هاتفًا وقتها .. حين لا
أجده في ورشته أنتظر أمام الدكان، حيث التلفاز يعرض المسلسل دائمًا ..
أترجل من الحافلة بالقرب من موقف شندي، و أقطع المسافة حتى المنطقة
الصناعية سيرًا .. يسكن في غرفة صغيرة أمام الورشة .. يحتل أغلبها سلم يقود
إلى لا مكان، و بابها ستارة من القماش .. "قندهار" كما يسميها .. نجلس
أمامها نحتسي الشاي الساخن الذي يحضّره جعفر و هو يدخن البنقو بشراهة و
يضحك دون سبب فنضحك معه .. الشوارع الساكنة المظلمة تبعث على الحزن ..
الإنتقال اليومي من الحياة و الصخب و الزحام إلى الموت .. في الشتاء نشعل
الأوراق الجافة و بعض الأخشاب من الورشة و نتحلق حولها .. نتحدث عن كل شيء
عدا الأشياء المهمة حقًا .. لكن دائمًا ينتهي الأمر بإسماعيل و هو يحكي عن
حبيبته ذات العينين الدافئتين الواسعتين و اللثغة المحببة .. و كيف جلس على
تل الرمل يتابع حفل زفافها من عل و هو يبكي .. "فلم هندي بس" يقولها
ضاحكًا .. ثم يسرح ببصره بعيدًا فأعلم أن سخريته مجرد كذبة .. في اليوم
التالي لزفافها ودع أهله و حمل حقيبته و استقل البص إلى الخرطوم، و لم يعد
منذها .. هذه الأشياء تحدث حقًا إذن .. بدا لي كرواية تسير على قدمين ..
صارحته بهذا فأخبرني بأني أبله .. في الأعياد يبقى وحيدًا حيث تتحول
المنطقة الصناعية لمدينة أشباح .. أختلس بعض الكعك و قوارير البيبسي من
المنزل .. نجلس أمام الغرفة كالعادة و نتحدث عن كل شيء عدا الأشياء المهمة
حقًا .. يحكي عن البلد بحنين جارف .. ثم يحدثني عن حبيبته ذات العينين
الدافئتين و كيف كانا يلتقيان قرب النهر لتقرأ له قصائدها .. نضع كل يوم
عشرات الخطط عن الأشياء التي سنفعلها غدًا .. ثم نكتفي بالجلوس على صناديق
البيبسي الفارغة و شرب الشاي و التدخين .. عندما يكون مزاجه رائقًا يخرج
ورقة مهترئة و يقرأ لي إحدى قصائدها .. بدا لي شِعرها رديئًا، لكن بريق
عينيه أخبرني أني لا أفقه شيئًا عن الحب .. اختفى فجأة .. قيل لي إنه عاد
إلى البلد أخيرًا .. هاتفني مرتين أو ثلاث .. بدا صوته متعبًا أشيبًا ..
خططت لزيارته هناك ثم تراكمت الأيام و الغبار على القلب و نسيت .. هاتفني
قبل أشهر من سفري، قال إنهم خرجوا للتنقيب عن الذهب و "ربنا وفقهم" و إنه
يبحث عن عمارة في الخرطوم ليشتريها و يرغب أن أساعده .. في حدود الثلاثة
مليارات جنيه .. اختفت نبرة السخرية من صوته .. قال كذلك إنه سيتزوج قريبًا
.. وعدته أن أساعده في البحث، لكني لم أفعل .. مكالمة أخرى .. كنت مشغولًا
بشيء ما فلم أرد، أو هذا ما أدعيته .. سأتصل به غدًا، هكذا حدثت نفسي ..
لم أتصل .. اتصلت حين عدت بعد سنة .. و كالعادة وجدت هاتفه مغلقًا .. لا
أذكر أنه استطاع أن يحافظ على هاتف لأكثر من شهر .. أين يذهب الماضي و كيف
أعرف أن كل هذا حدث حقًا ؟ توقفت منذ فترة عن التساؤل عن مغزى الأشياء ..
لكن الماضي لا وجود له إلا في ما يبقى في القلب من حزن ..
الثلاثاء، 2 يونيو 2015
صخور
ثلاث صخرات عنيدات من صخور الجبل دخلن في رهان .. أيهن أضوأ سطحًا و أبهى لمعةً و أنقى معدنًا ؟
و حكّموا أحد المارة في الخلاء .. من الجن السعاة ، المكلفين بنقل الماء إلى قمة الجبل الخرافي المتوحد الذي يشق السماء ، و يتعمّم بالسحاب ..
قبل الجنّي المهمة ..
و حكّموا أحد المارة في الخلاء .. من الجن السعاة ، المكلفين بنقل الماء إلى قمة الجبل الخرافي المتوحد الذي يشق السماء ، و يتعمّم بالسحاب ..
قبل الجنّي المهمة ..
تأمل الصخرة الأولى .. خطفت بصره بلمعتها ، تدحرجت تحت الشمس فتلألأت
قشرتها بلون الذهب المحرم .. و هتفت: "أنا الذهب و الشمس ، أنا الصحراء و
الجبال و الأنجم"
ثم تأمل الثانية .. برقت و لمعت .. تزجّجَت و تفضّأت .. تكسّرت عليها الأشعة ، و هرب من سطحها الضوء .. حتى بدت بيضاء من غير سوء .. وهتفت: "أنا الفضة و الماء و الكويكبات ، أنا القمر و الليل و النبع الأزلي"
ثم تأمل الثالثة .. كمداء باهتة .. استعارت لون التراب و ملمس الحصى .. مهملة متعبة .. لم تنبس بكلمة .. سألها :" و أنت ؟ ما أنت ؟"
قالت : " ربّي الله" .. و أشعّت بالنور الإلهي .. فانطفأت الصخرتان الأخريان .. و تهاوت السماء وذابت .. و اشتعل الجني .. و اهتز الجبل الخرافي و ارتجف .. ثم تشقق و انفجر .. و تناثر ترابًا في الفراغ ..
ثم تأمل الثانية .. برقت و لمعت .. تزجّجَت و تفضّأت .. تكسّرت عليها الأشعة ، و هرب من سطحها الضوء .. حتى بدت بيضاء من غير سوء .. وهتفت: "أنا الفضة و الماء و الكويكبات ، أنا القمر و الليل و النبع الأزلي"
ثم تأمل الثالثة .. كمداء باهتة .. استعارت لون التراب و ملمس الحصى .. مهملة متعبة .. لم تنبس بكلمة .. سألها :" و أنت ؟ ما أنت ؟"
قالت : " ربّي الله" .. و أشعّت بالنور الإلهي .. فانطفأت الصخرتان الأخريان .. و تهاوت السماء وذابت .. و اشتعل الجني .. و اهتز الجبل الخرافي و ارتجف .. ثم تشقق و انفجر .. و تناثر ترابًا في الفراغ ..
الأحد، 5 أبريل 2015
أشياء تحدث ليلًا
لسنا سوى أشباح لا حقيقة لنا .. لا صوت لنا ..
لا أعين لنا .. ولا أقدام ..
لكن فقط في الليالي الصافية .. حين تشع النجوم و تتلألأ كجواهر ثمينة ..
حين نقف تحت قبة السماء و ننادي .. ننادي بصوت خافت يتردد فقط داخل الروح ..
حينها قد نسمع الأصوات السماوية .. حينها قد نتشرب بنثرات من الحقيقة الأبدية ..
حينها نبكي بدموع حقيقية .. و نشعر بالطعم المالح في أفواهنا ..
حينها نلتحم مع الأسرار العلوية و تخترقنا الأناشيد ..
لا أعين لنا .. ولا أقدام ..
لكن فقط في الليالي الصافية .. حين تشع النجوم و تتلألأ كجواهر ثمينة ..
حين نقف تحت قبة السماء و ننادي .. ننادي بصوت خافت يتردد فقط داخل الروح ..
حينها قد نسمع الأصوات السماوية .. حينها قد نتشرب بنثرات من الحقيقة الأبدية ..
حينها نبكي بدموع حقيقية .. و نشعر بالطعم المالح في أفواهنا ..
حينها نلتحم مع الأسرار العلوية و تخترقنا الأناشيد ..
لسنا سوى أشباح لا حقيقة لنا ..
لكن فقط في الليالي الصافية .. حين تغني أم لطفلها ..
حين تتماسك يدا عاشقين و تتلاقى أعينهما ..
حين ينثر عجوز الحبوب للطير و هو يغني بلكنة ثقيلة ..
حينها تفتح السماء أبوابها و يغمرنا قبس من النور ..
حينها قد نسمع الأصوات السماوية .. حينها قد نتشرب بنثرات من الحقيقة الأبدية ..
حينها تفتح السماء أبوابها و يغمرنا قبس من النور ..
قبس من النور ..
لكن فقط في الليالي الصافية .. حين تغني أم لطفلها ..
حين تتماسك يدا عاشقين و تتلاقى أعينهما ..
حين ينثر عجوز الحبوب للطير و هو يغني بلكنة ثقيلة ..
حينها تفتح السماء أبوابها و يغمرنا قبس من النور ..
حينها قد نسمع الأصوات السماوية .. حينها قد نتشرب بنثرات من الحقيقة الأبدية ..
حينها تفتح السماء أبوابها و يغمرنا قبس من النور ..
قبس من النور ..
السبت، 14 مارس 2015
مطار
قبل عدد كبير جدًا من السنين ، و في صالة المغادرة في مطار ما .. أذكر
تمامًا و بصورة واضحة كلوحة أنظر لها الآن منظر الزوجين ذوي الملامح الشرق
أوروبية .. الزوج جالس على الأرض و ظهره متكئ على الحائط .. و زوجته ترقد
بجانبه ، رأسها في حجره و يدها تمسك بيده ، و هي تغط في نوم عميق ..
الإرهاق و التعب باديان عليهما .. ملابسهما قديمة و مجعدة .. ذقن الزوج
نامية و مشعثة .. و حولهما تتناثر أمتعتهما البسيطة في بضعة أكياس ..
المنظر بصورة عامة يوحي بالبؤس .. لكن نظرة سريعة لتعابير وجهيهما و ستعرف
كم كنت مخطئًا .. حتى و أنا طفل استطعت أن أفهم تمامًا .. السلام التام
المرتسم على وجهها و هي تنام على أرض الصالة الباردة محاطة بالغرباء و
نداءات المغادرة و الوصول و الهمهة المنتظمة التي تميز الأماكن المزدحمة ..
ذلك السلام الذي تجد تفسيره في نظرة الزوج و هو يمسك بيدها و يتأمل وجهها
المستلقي على حجره و تلك الإبتسامة الخفيفة تعلو شفتيه .. عيناه المتعبتان
المرهقتان تنطقان بتعبير لا يوصف .. لكنك فقط تعلم يقينًا إنه لن يسمح بأن
يحدث لها شيء أبدًا .. و إنه رغم الأرضية الباردة و الملابس المجعدة و
الضوضاء و رائحة التبغ فهما سعيدان .. حقًا سعيدان ..
لحظة
- ليس هناك مكان في العالم أرغب أن أكون فيه ، ولا شخص أرغب أن أكون معه
، سوى هنا و معَك .. كل ما أتمناه أن تستمر هذه اللحظة للأبد .. لماذا
دائمًا تنتهي الأوقات الجيدة بسرعة ، و أين تذهب ؟
- إنها تنساب كمياه البحر داخل زجاجة شفافة ملقاة على الشاطئ .. فقط اللحظات الرائعة كهذه هي ما يدخل الزجاجة .. أما اللحظات العادية المملة فتبلل الشاطئ للحظات ثم تتشرّبها الرمال .. و عندما تمتلئ الزجاجة توضع في الرفّ الكوني العظيم حتى الحوجة ..
- و فيم نحتاجها ؟
- إنها تنساب كمياه البحر داخل زجاجة شفافة ملقاة على الشاطئ .. فقط اللحظات الرائعة كهذه هي ما يدخل الزجاجة .. أما اللحظات العادية المملة فتبلل الشاطئ للحظات ثم تتشرّبها الرمال .. و عندما تمتلئ الزجاجة توضع في الرفّ الكوني العظيم حتى الحوجة ..
- و فيم نحتاجها ؟
- و من أين تظنين النجوم تأتي بضوئها !؟ قبلة حقيقية واحدة تكفي لتتوهج ألف نجمة لألف عام ..
- و لم لا نبقى هنا فقط .. نمسك بهذه اللحظة النادرة .. حيث لا خوف و لا ألم .. السعادة المطلقة التي لم أحلم بها من قبل .. لم لا نستطيع الهروب من الزمن .. ألا تتركنا الحياة في حالنا إن تخلينا عنها ؟ ألا تتواطؤ معنا و تغضّ الطرف عن فرحتنا الصغيرة هذه ؟ أم ستعاقبنا كما تعاقب كل من يجرؤ على الحب ؟
- لا أدري ما سيحدث .. لكني لست خائفا .. في الأغلب لن أظل هنا ، لكن هذه اللحظة ستبقى دائمًا هناك .. كلما شعرتِ بالخوف أو الحزن أو اليأس ، أنظري للسماء .. و اعلمي إنّا نحن من صنع كل هذه النجوم .. إن حبنا هذا هو ما يزين السماء و يضيء الكون .. و إنّا سنبقى للأبد ..
- و لم لا نبقى هنا فقط .. نمسك بهذه اللحظة النادرة .. حيث لا خوف و لا ألم .. السعادة المطلقة التي لم أحلم بها من قبل .. لم لا نستطيع الهروب من الزمن .. ألا تتركنا الحياة في حالنا إن تخلينا عنها ؟ ألا تتواطؤ معنا و تغضّ الطرف عن فرحتنا الصغيرة هذه ؟ أم ستعاقبنا كما تعاقب كل من يجرؤ على الحب ؟
- لا أدري ما سيحدث .. لكني لست خائفا .. في الأغلب لن أظل هنا ، لكن هذه اللحظة ستبقى دائمًا هناك .. كلما شعرتِ بالخوف أو الحزن أو اليأس ، أنظري للسماء .. و اعلمي إنّا نحن من صنع كل هذه النجوم .. إن حبنا هذا هو ما يزين السماء و يضيء الكون .. و إنّا سنبقى للأبد ..
الاثنين، 23 فبراير 2015
رسّام و كاتب سيناريو
كانت الزنزانة باردة حقًا كما يليق بسمعة الزنازين .. الأرض و الحوائط
الحجرية رطبة قليلًا و الماء ينز من السقف .. الضوء الخافت المتسلل من
الممر يبعث الحياة في الظلال فتحاصرنا الأشباح .. الصمت و الخوف و اليأس ..
مخاوفنا تتسلل للهواء فيثقل و يثقل و يجثم على أرواحنا فيصعب التنفس و
تختنق الكلمات .. يشيخ الوقت هنا و يذبل و يفقد معناه .. هل مر شهر ؟ شهران
؟ سنة ؟ لا أذكر .. و ما الفائدة ؟ المستقبل مظلم تمامًا حتى إنني فقدت
القدرة على تخيل أي شيء سوى الحجر و القضبان و الظلال ، و يد الحارس
اللعينة و هي تدفع صحف الطعام .. بدا أن هذا سيستمر للأبد .. و الأسوأ إن
الخروج من هنا له معنى واحد ؛ كتيبة الإعدام .. كنا نسمع أصوات الطلقات
ليلًا فتنحبس الأنفاس و تعلو دقات القلوب حتى تنافس دوي البنادق .. كنا
خمسة في الزنزانة لم يسأل أحدنا الآخر عن اسمه أو السبب الذي أتى به
هنا .. كلنا نعلم لم نحن هنا .. الشاب ذو الشعر الأشيب بالكامل - و هو
الأمر الغريب في مثل سنه - كان ينحت على الحائط ملاكًا صاعدًا إلى السماء
كلما سمعنا صوت كتيبة الإعدام .. ملاكًا كما يُرسم في القصص الهزلية
بجناحين و هالة حول رأسه .. كانت يده تدمى و هو يستعمل غطاء زجاجة مشروب
غازي -لا ندري من أين حصل عليه- في النحت .. ثم يخبئ الغطاء بعناية في
الأرض بين حجرين خوفًا من عملية تفتيش مفاجئة لم تأت حتى الآن .. في الأيام
الأولى كانت نهنهة مفاجئة تنبعث من أحدنا من لحظة لأخرى .. و ترى الدموع
تغرق وجوه الجميع بعدها .. ثم شيئًا فشيئًا نسينا البكاء و حتى الحزن ..
فقط الخوف و اللا شيء .. الأعين متسعة خاوية طوال الوقت .. الحركات آلية
متصلبة .. الوجوه باردة جامدة شاحبة .. كنت أذكر أن لي أسرة و حياة هناك في
الخارج حيث النور .. لكن الصور بهتت و تلاشت .. الذكريات خنقها الظلام و
اللا جدوى .. كنا نموت و نذوي قبل أن تفارقنا أرواحنا ..
فقط محفوظ كان يبدو مختلفًا .. نعم هو الوحيد الذي عرفنا اسمه .. بعد بضعة أيام من إحضارنا وقف فجأة و قال : أنا محفوظ ، رسام و كاتب سيناريو ! .. تلفت حوله و لما لم يجد تجاوبًا عاد إلى جلسته .. ظننته معتوهًا وقتها ، أو إن السجن و الخوف أذهبا عقله .. محفوظ هو الوحيد الذي كان يبدو مختلفًا بذلك البريق الذي يشع من عينيه و يقول إنه ما زال حيًا .. يستلقي دائمًا في منتصف الزنزانة بالضبط ، يضع إحدى يديه خلف رأسه كوسادة ، و يحرك الأخرى في الهواء راسمًا خطوطًا وهمية و هو يهمهم و يدندن بجمل غريبة .. لاحظت بعد فترة أن إحدى أصابع يده اليسرى مقطوع .. كما أن هنالك بياض يغطي إحدى عينيه .. عصر ذلك اليوم اقتادوا الرجل ذو الذقن الكثيفة الذي كان يجلس دائمًا في الركن المقابل لي .. عندما سمعنا الطلقات في المساء عرفنا إنه لن يعود و أن دورنا قد اقترب .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ملاكين و قال إن الآخر هو له تحسبًا لو كان دوره هو القادم .. دهمتنا الحقيقة المفجعة و المصير الحتمي ، عدنا للبكاء .. محفوظ كعادته متسع العينين ينظر للسقف و يحرك يده .. ثم فجأة قفز من مكانه و أخذ يصرخ و يضحك في نفس الوقت : لقد انتهت ! لقد انتهت ! هاهاهاهاها ! أعظم لوحة رسمها الإنسان ، هاهاهاها ! نظرنا له في تساؤل و قررت أني كنت محقًا و إنه قد جن .. لكنه صرخ مرة أخرى : لقد أنهيت لوحتي ، ماذا كنتم تظنونني أفعل أيها البلهاء .. لقد كنت أرسم لوحتي الأخيرة ، أعظم لوحة رسمها إنسان ، إنها هنا في سقف الزنزانة ، تعالوا لتروا ..
استلقى على الأرض و هو يشير لنا لنفعل مثله .. استلقينا جميعًا على الأرض بدافع الفضول ، يعلونا سقف الزنزانة الكئيب الرطب المظلم .. ثم بدأ محفوظ يتحدث بصوت يفيض بالحماس و الشغف .. عيناه تشعان حتى تكادان تضيئان الزنزانة :
أنظروا ! أنظروا معي و تأملوا اللوحة .. هنا في المركز بحيرة صافية تنعكس عليها الألوان من الشمس الغاربة .. سرب طيور يحلق نحو الشمس و ينساب في الهواء كأحلام الصغار .. شجرة وحيدة كئيبة صفراء كقلب عجوز يتأمل البحر .. الأوراق المتساقطة منها يحملها الهواء فتتراكم في كومة بجانب السور الخشبي .. هل ترون السور الخشبي ؟ نحت عليه العشاق عشرات القلوب التي تخترقها الأسهم و تزينها الحروف و الأسماء .. و على المقعد الطويل تتربع تلك الفتاة بشعرها الطويل و ثوبها المورد .. آه ما أشد جمالها ! هل رأيتم فتاة بمثل جمالها !؟ هه !؟ تدب الحياة في ورود ثوبها فتترك الثوب و تطير في صف طويل إلى ركن اللوحة و تصير نجومًا .. هل ترون ؟ في هذا الركن الشمس الغاربة و هناك الورود التي صارت نجومًا ..
كل كلمة يقولها كانت تتسامى و تشتعل و كما السحر كنت أرى كل شيء .. سرب الطيور و السور و الفتاة و النجوم .. وقعت في حب الفتاة و غازلتها .. ركضنا نحو السور و نحتنا قلبًا بداخله اسمانا .. جلسنا على المقعد و داعبت شعرها .. طارت الورود من ثوبها فأمسكتُ بوردة و حلّقتُ نحو السماء .. عبرتُ بين النجوم و ارتقيت ..
حين انتهى محفوظ جلس في مكانه متقطع الأنفاس و وجهه محمر من الإنفعال .. جلسنا جميعًا .. ابتسم محفوظ .. ثم أخذ يضحك بسعادة .. ابتسمت ، ثم بدأت في الضحك .. و خلال دقائق كنا جميعًا نضحك بجنون و سعادة متفجرة .. ظللنا نضحك و نتحدث عن اللوحة و الفتاة ذات الثوب المورد طيلة الليل ، و عندما أتوا و أخذوا محفوظ في اليوم التالي ابتسم و هو يودعنا .. و ابتسمنا و هززنا رؤوسنا .. ثم حين سمعنا صوت الطلقات انقبضت قلوبنا .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ثلاثة ملائكة هذه المرة .. ثم و دون تدبير متعمد استلقينا ثلاثتنا على الأرض و أخذنا نتأمل لوحة محفوظ الأخيرة .. أعظم لوحة رسمها إنسان ..
فقط محفوظ كان يبدو مختلفًا .. نعم هو الوحيد الذي عرفنا اسمه .. بعد بضعة أيام من إحضارنا وقف فجأة و قال : أنا محفوظ ، رسام و كاتب سيناريو ! .. تلفت حوله و لما لم يجد تجاوبًا عاد إلى جلسته .. ظننته معتوهًا وقتها ، أو إن السجن و الخوف أذهبا عقله .. محفوظ هو الوحيد الذي كان يبدو مختلفًا بذلك البريق الذي يشع من عينيه و يقول إنه ما زال حيًا .. يستلقي دائمًا في منتصف الزنزانة بالضبط ، يضع إحدى يديه خلف رأسه كوسادة ، و يحرك الأخرى في الهواء راسمًا خطوطًا وهمية و هو يهمهم و يدندن بجمل غريبة .. لاحظت بعد فترة أن إحدى أصابع يده اليسرى مقطوع .. كما أن هنالك بياض يغطي إحدى عينيه .. عصر ذلك اليوم اقتادوا الرجل ذو الذقن الكثيفة الذي كان يجلس دائمًا في الركن المقابل لي .. عندما سمعنا الطلقات في المساء عرفنا إنه لن يعود و أن دورنا قد اقترب .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ملاكين و قال إن الآخر هو له تحسبًا لو كان دوره هو القادم .. دهمتنا الحقيقة المفجعة و المصير الحتمي ، عدنا للبكاء .. محفوظ كعادته متسع العينين ينظر للسقف و يحرك يده .. ثم فجأة قفز من مكانه و أخذ يصرخ و يضحك في نفس الوقت : لقد انتهت ! لقد انتهت ! هاهاهاهاها ! أعظم لوحة رسمها الإنسان ، هاهاهاها ! نظرنا له في تساؤل و قررت أني كنت محقًا و إنه قد جن .. لكنه صرخ مرة أخرى : لقد أنهيت لوحتي ، ماذا كنتم تظنونني أفعل أيها البلهاء .. لقد كنت أرسم لوحتي الأخيرة ، أعظم لوحة رسمها إنسان ، إنها هنا في سقف الزنزانة ، تعالوا لتروا ..
استلقى على الأرض و هو يشير لنا لنفعل مثله .. استلقينا جميعًا على الأرض بدافع الفضول ، يعلونا سقف الزنزانة الكئيب الرطب المظلم .. ثم بدأ محفوظ يتحدث بصوت يفيض بالحماس و الشغف .. عيناه تشعان حتى تكادان تضيئان الزنزانة :
أنظروا ! أنظروا معي و تأملوا اللوحة .. هنا في المركز بحيرة صافية تنعكس عليها الألوان من الشمس الغاربة .. سرب طيور يحلق نحو الشمس و ينساب في الهواء كأحلام الصغار .. شجرة وحيدة كئيبة صفراء كقلب عجوز يتأمل البحر .. الأوراق المتساقطة منها يحملها الهواء فتتراكم في كومة بجانب السور الخشبي .. هل ترون السور الخشبي ؟ نحت عليه العشاق عشرات القلوب التي تخترقها الأسهم و تزينها الحروف و الأسماء .. و على المقعد الطويل تتربع تلك الفتاة بشعرها الطويل و ثوبها المورد .. آه ما أشد جمالها ! هل رأيتم فتاة بمثل جمالها !؟ هه !؟ تدب الحياة في ورود ثوبها فتترك الثوب و تطير في صف طويل إلى ركن اللوحة و تصير نجومًا .. هل ترون ؟ في هذا الركن الشمس الغاربة و هناك الورود التي صارت نجومًا ..
كل كلمة يقولها كانت تتسامى و تشتعل و كما السحر كنت أرى كل شيء .. سرب الطيور و السور و الفتاة و النجوم .. وقعت في حب الفتاة و غازلتها .. ركضنا نحو السور و نحتنا قلبًا بداخله اسمانا .. جلسنا على المقعد و داعبت شعرها .. طارت الورود من ثوبها فأمسكتُ بوردة و حلّقتُ نحو السماء .. عبرتُ بين النجوم و ارتقيت ..
حين انتهى محفوظ جلس في مكانه متقطع الأنفاس و وجهه محمر من الإنفعال .. جلسنا جميعًا .. ابتسم محفوظ .. ثم أخذ يضحك بسعادة .. ابتسمت ، ثم بدأت في الضحك .. و خلال دقائق كنا جميعًا نضحك بجنون و سعادة متفجرة .. ظللنا نضحك و نتحدث عن اللوحة و الفتاة ذات الثوب المورد طيلة الليل ، و عندما أتوا و أخذوا محفوظ في اليوم التالي ابتسم و هو يودعنا .. و ابتسمنا و هززنا رؤوسنا .. ثم حين سمعنا صوت الطلقات انقبضت قلوبنا .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ثلاثة ملائكة هذه المرة .. ثم و دون تدبير متعمد استلقينا ثلاثتنا على الأرض و أخذنا نتأمل لوحة محفوظ الأخيرة .. أعظم لوحة رسمها إنسان ..
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)