كانت الزنزانة باردة حقًا كما يليق بسمعة الزنازين .. الأرض و الحوائط
الحجرية رطبة قليلًا و الماء ينز من السقف .. الضوء الخافت المتسلل من
الممر يبعث الحياة في الظلال فتحاصرنا الأشباح .. الصمت و الخوف و اليأس ..
مخاوفنا تتسلل للهواء فيثقل و يثقل و يجثم على أرواحنا فيصعب التنفس و
تختنق الكلمات .. يشيخ الوقت هنا و يذبل و يفقد معناه .. هل مر شهر ؟ شهران
؟ سنة ؟ لا أذكر .. و ما الفائدة ؟ المستقبل مظلم تمامًا حتى إنني فقدت
القدرة على تخيل أي شيء سوى الحجر و القضبان و الظلال ، و يد الحارس
اللعينة و هي تدفع صحف الطعام .. بدا أن هذا سيستمر للأبد .. و الأسوأ إن
الخروج من هنا له معنى واحد ؛ كتيبة الإعدام .. كنا نسمع أصوات الطلقات
ليلًا فتنحبس الأنفاس و تعلو دقات القلوب حتى تنافس دوي البنادق .. كنا
خمسة في الزنزانة لم يسأل أحدنا الآخر عن اسمه أو السبب الذي أتى به
هنا .. كلنا نعلم لم نحن هنا .. الشاب ذو الشعر الأشيب بالكامل - و هو
الأمر الغريب في مثل سنه - كان ينحت على الحائط ملاكًا صاعدًا إلى السماء
كلما سمعنا صوت كتيبة الإعدام .. ملاكًا كما يُرسم في القصص الهزلية
بجناحين و هالة حول رأسه .. كانت يده تدمى و هو يستعمل غطاء زجاجة مشروب
غازي -لا ندري من أين حصل عليه- في النحت .. ثم يخبئ الغطاء بعناية في
الأرض بين حجرين خوفًا من عملية تفتيش مفاجئة لم تأت حتى الآن .. في الأيام
الأولى كانت نهنهة مفاجئة تنبعث من أحدنا من لحظة لأخرى .. و ترى الدموع
تغرق وجوه الجميع بعدها .. ثم شيئًا فشيئًا نسينا البكاء و حتى الحزن ..
فقط الخوف و اللا شيء .. الأعين متسعة خاوية طوال الوقت .. الحركات آلية
متصلبة .. الوجوه باردة جامدة شاحبة .. كنت أذكر أن لي أسرة و حياة هناك في
الخارج حيث النور .. لكن الصور بهتت و تلاشت .. الذكريات خنقها الظلام و
اللا جدوى .. كنا نموت و نذوي قبل أن تفارقنا أرواحنا ..
فقط محفوظ كان يبدو مختلفًا .. نعم هو الوحيد الذي عرفنا اسمه .. بعد بضعة أيام من إحضارنا وقف فجأة و قال : أنا محفوظ ، رسام و كاتب سيناريو ! .. تلفت حوله و لما لم يجد تجاوبًا عاد إلى جلسته .. ظننته معتوهًا وقتها ، أو إن السجن و الخوف أذهبا عقله .. محفوظ هو الوحيد الذي كان يبدو مختلفًا بذلك البريق الذي يشع من عينيه و يقول إنه ما زال حيًا .. يستلقي دائمًا في منتصف الزنزانة بالضبط ، يضع إحدى يديه خلف رأسه كوسادة ، و يحرك الأخرى في الهواء راسمًا خطوطًا وهمية و هو يهمهم و يدندن بجمل غريبة .. لاحظت بعد فترة أن إحدى أصابع يده اليسرى مقطوع .. كما أن هنالك بياض يغطي إحدى عينيه .. عصر ذلك اليوم اقتادوا الرجل ذو الذقن الكثيفة الذي كان يجلس دائمًا في الركن المقابل لي .. عندما سمعنا الطلقات في المساء عرفنا إنه لن يعود و أن دورنا قد اقترب .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ملاكين و قال إن الآخر هو له تحسبًا لو كان دوره هو القادم .. دهمتنا الحقيقة المفجعة و المصير الحتمي ، عدنا للبكاء .. محفوظ كعادته متسع العينين ينظر للسقف و يحرك يده .. ثم فجأة قفز من مكانه و أخذ يصرخ و يضحك في نفس الوقت : لقد انتهت ! لقد انتهت ! هاهاهاهاها ! أعظم لوحة رسمها الإنسان ، هاهاهاها ! نظرنا له في تساؤل و قررت أني كنت محقًا و إنه قد جن .. لكنه صرخ مرة أخرى : لقد أنهيت لوحتي ، ماذا كنتم تظنونني أفعل أيها البلهاء .. لقد كنت أرسم لوحتي الأخيرة ، أعظم لوحة رسمها إنسان ، إنها هنا في سقف الزنزانة ، تعالوا لتروا ..
استلقى على الأرض و هو يشير لنا لنفعل مثله .. استلقينا جميعًا على الأرض بدافع الفضول ، يعلونا سقف الزنزانة الكئيب الرطب المظلم .. ثم بدأ محفوظ يتحدث بصوت يفيض بالحماس و الشغف .. عيناه تشعان حتى تكادان تضيئان الزنزانة :
أنظروا ! أنظروا معي و تأملوا اللوحة .. هنا في المركز بحيرة صافية تنعكس عليها الألوان من الشمس الغاربة .. سرب طيور يحلق نحو الشمس و ينساب في الهواء كأحلام الصغار .. شجرة وحيدة كئيبة صفراء كقلب عجوز يتأمل البحر .. الأوراق المتساقطة منها يحملها الهواء فتتراكم في كومة بجانب السور الخشبي .. هل ترون السور الخشبي ؟ نحت عليه العشاق عشرات القلوب التي تخترقها الأسهم و تزينها الحروف و الأسماء .. و على المقعد الطويل تتربع تلك الفتاة بشعرها الطويل و ثوبها المورد .. آه ما أشد جمالها ! هل رأيتم فتاة بمثل جمالها !؟ هه !؟ تدب الحياة في ورود ثوبها فتترك الثوب و تطير في صف طويل إلى ركن اللوحة و تصير نجومًا .. هل ترون ؟ في هذا الركن الشمس الغاربة و هناك الورود التي صارت نجومًا ..
كل كلمة يقولها كانت تتسامى و تشتعل و كما السحر كنت أرى كل شيء .. سرب الطيور و السور و الفتاة و النجوم .. وقعت في حب الفتاة و غازلتها .. ركضنا نحو السور و نحتنا قلبًا بداخله اسمانا .. جلسنا على المقعد و داعبت شعرها .. طارت الورود من ثوبها فأمسكتُ بوردة و حلّقتُ نحو السماء .. عبرتُ بين النجوم و ارتقيت ..
حين انتهى محفوظ جلس في مكانه متقطع الأنفاس و وجهه محمر من الإنفعال .. جلسنا جميعًا .. ابتسم محفوظ .. ثم أخذ يضحك بسعادة .. ابتسمت ، ثم بدأت في الضحك .. و خلال دقائق كنا جميعًا نضحك بجنون و سعادة متفجرة .. ظللنا نضحك و نتحدث عن اللوحة و الفتاة ذات الثوب المورد طيلة الليل ، و عندما أتوا و أخذوا محفوظ في اليوم التالي ابتسم و هو يودعنا .. و ابتسمنا و هززنا رؤوسنا .. ثم حين سمعنا صوت الطلقات انقبضت قلوبنا .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ثلاثة ملائكة هذه المرة .. ثم و دون تدبير متعمد استلقينا ثلاثتنا على الأرض و أخذنا نتأمل لوحة محفوظ الأخيرة .. أعظم لوحة رسمها إنسان ..
فقط محفوظ كان يبدو مختلفًا .. نعم هو الوحيد الذي عرفنا اسمه .. بعد بضعة أيام من إحضارنا وقف فجأة و قال : أنا محفوظ ، رسام و كاتب سيناريو ! .. تلفت حوله و لما لم يجد تجاوبًا عاد إلى جلسته .. ظننته معتوهًا وقتها ، أو إن السجن و الخوف أذهبا عقله .. محفوظ هو الوحيد الذي كان يبدو مختلفًا بذلك البريق الذي يشع من عينيه و يقول إنه ما زال حيًا .. يستلقي دائمًا في منتصف الزنزانة بالضبط ، يضع إحدى يديه خلف رأسه كوسادة ، و يحرك الأخرى في الهواء راسمًا خطوطًا وهمية و هو يهمهم و يدندن بجمل غريبة .. لاحظت بعد فترة أن إحدى أصابع يده اليسرى مقطوع .. كما أن هنالك بياض يغطي إحدى عينيه .. عصر ذلك اليوم اقتادوا الرجل ذو الذقن الكثيفة الذي كان يجلس دائمًا في الركن المقابل لي .. عندما سمعنا الطلقات في المساء عرفنا إنه لن يعود و أن دورنا قد اقترب .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ملاكين و قال إن الآخر هو له تحسبًا لو كان دوره هو القادم .. دهمتنا الحقيقة المفجعة و المصير الحتمي ، عدنا للبكاء .. محفوظ كعادته متسع العينين ينظر للسقف و يحرك يده .. ثم فجأة قفز من مكانه و أخذ يصرخ و يضحك في نفس الوقت : لقد انتهت ! لقد انتهت ! هاهاهاهاها ! أعظم لوحة رسمها الإنسان ، هاهاهاها ! نظرنا له في تساؤل و قررت أني كنت محقًا و إنه قد جن .. لكنه صرخ مرة أخرى : لقد أنهيت لوحتي ، ماذا كنتم تظنونني أفعل أيها البلهاء .. لقد كنت أرسم لوحتي الأخيرة ، أعظم لوحة رسمها إنسان ، إنها هنا في سقف الزنزانة ، تعالوا لتروا ..
استلقى على الأرض و هو يشير لنا لنفعل مثله .. استلقينا جميعًا على الأرض بدافع الفضول ، يعلونا سقف الزنزانة الكئيب الرطب المظلم .. ثم بدأ محفوظ يتحدث بصوت يفيض بالحماس و الشغف .. عيناه تشعان حتى تكادان تضيئان الزنزانة :
أنظروا ! أنظروا معي و تأملوا اللوحة .. هنا في المركز بحيرة صافية تنعكس عليها الألوان من الشمس الغاربة .. سرب طيور يحلق نحو الشمس و ينساب في الهواء كأحلام الصغار .. شجرة وحيدة كئيبة صفراء كقلب عجوز يتأمل البحر .. الأوراق المتساقطة منها يحملها الهواء فتتراكم في كومة بجانب السور الخشبي .. هل ترون السور الخشبي ؟ نحت عليه العشاق عشرات القلوب التي تخترقها الأسهم و تزينها الحروف و الأسماء .. و على المقعد الطويل تتربع تلك الفتاة بشعرها الطويل و ثوبها المورد .. آه ما أشد جمالها ! هل رأيتم فتاة بمثل جمالها !؟ هه !؟ تدب الحياة في ورود ثوبها فتترك الثوب و تطير في صف طويل إلى ركن اللوحة و تصير نجومًا .. هل ترون ؟ في هذا الركن الشمس الغاربة و هناك الورود التي صارت نجومًا ..
كل كلمة يقولها كانت تتسامى و تشتعل و كما السحر كنت أرى كل شيء .. سرب الطيور و السور و الفتاة و النجوم .. وقعت في حب الفتاة و غازلتها .. ركضنا نحو السور و نحتنا قلبًا بداخله اسمانا .. جلسنا على المقعد و داعبت شعرها .. طارت الورود من ثوبها فأمسكتُ بوردة و حلّقتُ نحو السماء .. عبرتُ بين النجوم و ارتقيت ..
حين انتهى محفوظ جلس في مكانه متقطع الأنفاس و وجهه محمر من الإنفعال .. جلسنا جميعًا .. ابتسم محفوظ .. ثم أخذ يضحك بسعادة .. ابتسمت ، ثم بدأت في الضحك .. و خلال دقائق كنا جميعًا نضحك بجنون و سعادة متفجرة .. ظللنا نضحك و نتحدث عن اللوحة و الفتاة ذات الثوب المورد طيلة الليل ، و عندما أتوا و أخذوا محفوظ في اليوم التالي ابتسم و هو يودعنا .. و ابتسمنا و هززنا رؤوسنا .. ثم حين سمعنا صوت الطلقات انقبضت قلوبنا .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ثلاثة ملائكة هذه المرة .. ثم و دون تدبير متعمد استلقينا ثلاثتنا على الأرض و أخذنا نتأمل لوحة محفوظ الأخيرة .. أعظم لوحة رسمها إنسان ..
😔
ردحذف