الاثنين، 23 فبراير 2015

رسّام و كاتب سيناريو

كانت الزنزانة باردة حقًا كما يليق بسمعة الزنازين .. الأرض و الحوائط الحجرية رطبة قليلًا و الماء ينز من السقف .. الضوء الخافت المتسلل من الممر يبعث الحياة في الظلال فتحاصرنا الأشباح .. الصمت و الخوف و اليأس .. مخاوفنا تتسلل للهواء فيثقل و يثقل و يجثم على أرواحنا فيصعب التنفس و تختنق الكلمات .. يشيخ الوقت هنا و يذبل و يفقد معناه .. هل مر شهر ؟ شهران ؟ سنة ؟ لا أذكر .. و ما الفائدة ؟ المستقبل مظلم تمامًا حتى إنني فقدت القدرة على تخيل أي شيء سوى الحجر و القضبان و الظلال ، و يد الحارس اللعينة و هي تدفع صحف الطعام .. بدا أن هذا سيستمر للأبد .. و الأسوأ إن الخروج من هنا له معنى واحد ؛ كتيبة الإعدام .. كنا نسمع أصوات الطلقات ليلًا فتنحبس الأنفاس و تعلو دقات القلوب حتى تنافس دوي البنادق .. كنا خمسة في الزنزانة لم يسأل أحدنا الآخر عن اسمه أو السبب الذي أتى به هنا .. كلنا نعلم لم نحن هنا .. الشاب ذو الشعر الأشيب بالكامل - و هو الأمر الغريب في مثل سنه - كان ينحت على الحائط ملاكًا صاعدًا إلى السماء كلما سمعنا صوت كتيبة الإعدام .. ملاكًا كما يُرسم في القصص الهزلية بجناحين و هالة حول رأسه .. كانت يده تدمى و هو يستعمل غطاء زجاجة مشروب غازي -لا ندري من أين حصل عليه- في النحت .. ثم يخبئ الغطاء بعناية في الأرض بين حجرين خوفًا من عملية تفتيش مفاجئة لم تأت حتى الآن .. في الأيام الأولى كانت نهنهة مفاجئة تنبعث من أحدنا من لحظة لأخرى .. و ترى الدموع تغرق وجوه الجميع بعدها .. ثم شيئًا فشيئًا نسينا البكاء و حتى الحزن .. فقط الخوف و اللا شيء .. الأعين متسعة خاوية طوال الوقت .. الحركات آلية متصلبة .. الوجوه باردة جامدة شاحبة .. كنت أذكر أن لي أسرة و حياة هناك في الخارج حيث النور .. لكن الصور بهتت و تلاشت .. الذكريات خنقها الظلام و اللا جدوى .. كنا نموت و نذوي قبل أن تفارقنا أرواحنا .. 
فقط محفوظ كان يبدو مختلفًا .. نعم هو الوحيد الذي عرفنا اسمه .. بعد بضعة أيام من إحضارنا وقف فجأة و قال : أنا محفوظ ، رسام و كاتب سيناريو ! .. تلفت حوله و لما لم يجد تجاوبًا عاد إلى جلسته .. ظننته معتوهًا وقتها ، أو إن السجن و الخوف أذهبا عقله .. محفوظ هو الوحيد الذي كان يبدو مختلفًا بذلك البريق الذي يشع من عينيه و يقول إنه ما زال حيًا .. يستلقي دائمًا في منتصف الزنزانة بالضبط ، يضع إحدى يديه خلف رأسه كوسادة ، و يحرك الأخرى في الهواء راسمًا خطوطًا وهمية و هو يهمهم و يدندن بجمل غريبة .. لاحظت بعد فترة أن إحدى أصابع يده اليسرى مقطوع .. كما أن هنالك بياض يغطي إحدى عينيه .. عصر ذلك اليوم اقتادوا الرجل ذو الذقن الكثيفة الذي كان يجلس دائمًا في الركن المقابل لي .. عندما سمعنا الطلقات في المساء عرفنا إنه لن يعود و أن دورنا قد اقترب .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ملاكين و قال إن الآخر هو له تحسبًا لو كان دوره هو القادم .. دهمتنا الحقيقة المفجعة و المصير الحتمي ، عدنا للبكاء .. محفوظ كعادته متسع العينين ينظر للسقف و يحرك يده .. ثم فجأة قفز من مكانه و أخذ يصرخ و يضحك في نفس الوقت : لقد انتهت ! لقد انتهت ! هاهاهاهاها ! أعظم لوحة رسمها الإنسان ، هاهاهاها ! نظرنا له في تساؤل و قررت أني كنت محقًا و إنه قد جن .. لكنه صرخ مرة أخرى : لقد أنهيت لوحتي ، ماذا كنتم تظنونني أفعل أيها البلهاء .. لقد كنت أرسم لوحتي الأخيرة ، أعظم لوحة رسمها إنسان ، إنها هنا في سقف الزنزانة ، تعالوا لتروا ..
استلقى على الأرض و هو يشير لنا لنفعل مثله .. استلقينا جميعًا على الأرض بدافع الفضول ، يعلونا سقف الزنزانة الكئيب الرطب المظلم .. ثم بدأ محفوظ يتحدث بصوت يفيض بالحماس و الشغف .. عيناه تشعان حتى تكادان تضيئان الزنزانة :
أنظروا ! أنظروا معي و تأملوا اللوحة .. هنا في المركز بحيرة صافية تنعكس عليها الألوان من الشمس الغاربة .. سرب طيور يحلق نحو الشمس و ينساب في الهواء كأحلام الصغار .. شجرة وحيدة كئيبة صفراء كقلب عجوز يتأمل البحر .. الأوراق المتساقطة منها يحملها الهواء فتتراكم في كومة بجانب السور الخشبي .. هل ترون السور الخشبي ؟ نحت عليه العشاق عشرات القلوب التي تخترقها الأسهم و تزينها الحروف و الأسماء .. و على المقعد الطويل تتربع تلك الفتاة بشعرها الطويل و ثوبها المورد .. آه ما أشد جمالها ! هل رأيتم فتاة بمثل جمالها !؟ هه !؟ تدب الحياة في ورود ثوبها فتترك الثوب و تطير في صف طويل إلى ركن اللوحة و تصير نجومًا .. هل ترون ؟ في هذا الركن الشمس الغاربة و هناك الورود التي صارت نجومًا ..
كل كلمة يقولها كانت تتسامى و تشتعل و كما السحر كنت أرى كل شيء .. سرب الطيور و السور و الفتاة و النجوم .. وقعت في حب الفتاة و غازلتها .. ركضنا نحو السور و نحتنا قلبًا بداخله اسمانا .. جلسنا على المقعد و داعبت شعرها .. طارت الورود من ثوبها فأمسكتُ بوردة و حلّقتُ نحو السماء .. عبرتُ بين النجوم و ارتقيت ..
حين انتهى محفوظ جلس في مكانه متقطع الأنفاس و وجهه محمر من الإنفعال .. جلسنا جميعًا .. ابتسم محفوظ .. ثم أخذ يضحك بسعادة .. ابتسمت ، ثم بدأت في الضحك .. و خلال دقائق كنا جميعًا نضحك بجنون و سعادة متفجرة .. ظللنا نضحك و نتحدث عن اللوحة و الفتاة ذات الثوب المورد طيلة الليل ، و عندما أتوا و أخذوا محفوظ في اليوم التالي ابتسم و هو يودعنا .. و ابتسمنا و هززنا رؤوسنا .. ثم حين سمعنا صوت الطلقات انقبضت قلوبنا .. رسم الشاب ذو الشعر الأشيب ثلاثة ملائكة هذه المرة .. ثم و دون تدبير متعمد استلقينا ثلاثتنا على الأرض و أخذنا نتأمل لوحة محفوظ الأخيرة .. أعظم لوحة رسمها إنسان ..

السبت، 21 فبراير 2015

سيزيف

و كما (سيزيف) تدحرج صخرة الأسئلة .. تدفعها و تدفعها نحو القمة .. حتى تصل أشعثًا أغبرًا ، زائغ البصر ممزق الكفين .. ثم تتركها دون تدخل آلهة ما لتسقط .. ترقبها في لهفة و أمل .. علها تصل السفح فتتشظي و تتناثر .. تعود ترابًا خفيفًا ، هباءً ، فيحملها الهواء بعيدًا .. و لكنها تصمد كالقدر .. كالموت .. كنبتة صبار لم تر الماء .. و تفتح ذراعيها لاحتضانك من جديد ..
 و كلما سقَطت كَبُرت .. و كلما كَبُرت ثَقُلت .. حتى قاربت أن تصير جبلًا .. تدفعها فيئن ظهرك و تصرخ يداك ..
تحدثك نفسك بأن تتركها مكانها .. أن تجلس على القمة و تتناسى الصخرة .. أن تستعير لا مبالاة الهضبة التي تخدش قدميك .. جمود الخلاء القاسي الذي يحيط بك .. و لكن هاتفًا مجهولًا يصرخ في جوفك .. قوة لعينة تحرك أعضاءك .. و تجد نفسك في أحضان الصخرة من جديد ..
تصل القمة مرة أخرى ، و أخرى .. تترك الصخرة فتتدحرج .. تتمايل يمنة و يسرة .. تتقافز .. ثم تصل السفح فترقد في سلام ..
تصرخ .. تصرخ في يأس و ألم .. و تبكي .. كفاك تقتلانك و ظهرك مشتعل بالنار .. و الهاتف الخفي يهدر و يأمر أن عد .. عد و ادفع .. هذا قدرك و لا مفر .. حُكم عليك بأن تحمل الصخرة كل يوم .. و إن سألت : لماذا ؟ كَبُرت الصخرة و تضاعفت .. و النداء لا يرحم .. و الصخرة لا تبالي و لا تشفق ..
ثم تتسلل الموسيقى الخفيفة إلى أذنيك .. تظنها وهمًا لشدة خفوتها .. لكنها تحاصرك كدخان وردي خفيف .. تدخل مسامك و تداعب أنفاسك .. و لأول مرة تلتفت إلى ما وراء الهضبة .. هناك ، و من خلف أكوام الصخور الكريهة تنبع الموسيقى .. تتقدم و تنظر .. لا ترى شيئًا خلف الضباب .. لا شيء سوى الموسيقى التي تدعوك ..
يشدك نداء الصخرة إلى الخلف .. و الموسيقى تتكاثف أمامك و تزداد .. حتى تبدو و كأنها تنبع من كل مكان .. تعيد لك ذكريات لم تعشها .. تحمل قبلات فتاة لم تعرفها ، و ضحكات أصدقاء لم تقابلهم ..
و لأول مرة تحس بالخفة .. قيود الصخرة اللعينة تضمحل و تذوي .. النداء المتوعد يخفت ..
تفتح ذراعيك و تأخذ نفسًا عميقًا .. تتشرب الموسيقى حتى أعمق خلية في جسدك .. تشعر بالضوء يغمرك و تنتصب قامتك .. تبتسم .. ثم تقفز ..

الجمعة، 20 فبراير 2015

صباح عادي

لسبب ما و عكس غالبية البشر فلحظات الشروق تشعرني بحزن غريب .. لا أذكر متى انتبهت للأمر أول مرة ، لكن بدا لي و أنا أقف أمام النافذة صباح اليوم أن هذا الشعور كان دومًا هناك .. شيء ما في انسحاب الظلام و ضوء الشمس الباهت المقشعر و أصوات الطيور و ضوضاء البشر التي تبدأ على استحياء ثم تتشجع و تعلو يبعث كآبة غير عادية في نفسي .. أظن أن الأمر يرتبط بسؤال المعنى و شعور اللاجدوى الذي يصاحبني منذ طفولتي .. العصفور الذي سقط من عشه و أنقذته من هجوم القطط التي تملأ فناء المنزل كان تجربتي الأولى مع الموت .. أحمله في يدي و أحاول إطعامه بعض الرغيف المبلل بالماء و هو ينتفض و يرفض الأكل ، أحس بدقات قلبه بوضوح ، ثم فجأة توقف عن الإهتزاز و سكن تمامًا ، لم أفهم ما حدث في البداية ، ما زلت أحاول دفع الطعام بين منقاريه الصغيرين المفتوحين ، ثم صدمتني الحقيقة القاسية ، فراغ تكون في قلبي و لن يمتلئ ..

لا زلت أذكر منظر سكين المطبخ المغري في ذلك اليوم الحار و أنا وحدي بالمنزل و قد انقطعت الكهرباء كالعادة في تلك الأيام .. كنت قد انهيت لتوي قراءة كتاب الروح لابن القيم الذي سرقته بالطبع من مكتبة والدي رغم تحذيراته الصارمة .. طعنة واحدة و أعرف الحقيقة و يرتوي فضولي ، و لن تكون مشكلة كبيرة على كل حال فالأمر مجرد عبور لعالم آخر .. لا أظن أني كنت أنوي الإنتحار فعلًا ، و ليس بسكين المطبخ بالذات ، فالرعب مما يمكن أن تفعله بي أمي إذا عبثت بالسكين كان أكبر من خوفي من الموت أصلًا .. لكن الشعور بمدى هشاشة الحياة و سهولة انتهائها كان غريبًا حقًا ..

هناك سؤال قديم في الفلسفة عن الشجرة التي تسقط في غابة بعيدة حيث لا أحد ليسمع صوت سقوطها .. هل تصدر صوتًا ؟.. بيركلي أبو المثالية يقول إن الشجرة التي لا يراها أو يسمع صوتها أحد لا وجود لها ، الأشياء توجد لأننا نعيها ، لن يوجد كون إذا اختفى البشر فنحن من نضفي المعنى على الوجود ، المشكلة أننا نطالب بمعنى لوجودنا أيضًا .. كل العالم يعرف أرشيدوق النمسا فيرديناند الذي نشبت الحرب العالمية الأولى بسبب اغتياله ، شجرة عظيمة هوت و سمع الجميع صوتها .. أما التسعة ملايين الذين ماتوا في هذه الحرب فهم مجرد أرقام .. و هو لم يختر أن يكون أرشيدوقًا و لم يختر الموتى أن يكونوا أرقامًا في كتب التاريخ .. و العصفور الذي مات في يدي لم يختر أن يكون عصفورًا .. على كل حال لا أظن انهم يهتمون الآن كثيرًا ..


جالت هذه الأفكار بذهني و أنا أتأمل الشوارع الغريبة التي فشلت في حفظ أسمائها و اتجاهاتها حتى الآن ، و أتساءل من أنا حقًا و هل كل ما حدث حدث فعلًا .. كل ما أعرفه إني أشعر بالحنين لشيء ما غامض و أخاف منه .. راودتني رغبة قوية في إغلاق هاتفي و العودة للفراش و التكور تحت الغطاء طيلة اليوم كما كنت أفعل كثيرًا ، و احيانًا لعدة أسابيع في نوبات اكتئابي و انعزالي المتكررة .. لكن هذا ليس فراشي ، حقيبتي التي لم أجد الشجاعة لإفراغها بعد ترقد على الأرض و تقولها بوضوح ، فراشي هناك على بعد آلاف الكيلومترات .. لذا سأستحم ، أشرب كوبًا من العصير ، ثم أذهب للعمل مدعيًا أن ما أقوم به ليس هباءً .. اللهم خالق هذا الكون السرمدي ، ضع غلالة النسيان على أرواحنا و امنحنا القدرة على أن نستمر ..

توأم

يقف أمام المرآة يرنو إلى صورته وابتسامة خافتة تزين شفتيه .. بدا لي وكأنما يبتسم لكائن خفي ما أبعد من ذلك الإنعكاس .. أعمق من تلك الصورة الضوئية المهتزة قليلًا .. ثم خيل لي لوهلة أن ابتسامة الصورة ليست مطابقة تمامًا لابتسامته .. لا يمكنني القول إنه كان يبتسم لنفسه .. كلا ، هنالك شيء ما خلف المرآة ، أبعد من قدرات الحواس السطحية البلهاء وأخف من الضوء ..
لاحظت مرافقته ذات الشعر الأشيب والملامح المجعدة نظراتي، فقالت  بحزن وكأنها تعتذر : منذ توفي توأمه وهما في السابعة وهو على هذه الحال ، لا يكف عن التحديق إلى المرآة ..
شعرت بالحرج من تحديقي ومن صراحتها .. فغمغمت : إبنك؟ ردّت : أخي الأصغر .. قال الطبيب إنه مصاب بشيء ما في عقله لا يمكن علاجه، ووصف لنا بعض الأقراص ..

عاد الصمت ليغلفنا بعدها .. لا أدري لم قفز إلى ذهني لحظتها زوربا ولا أحد غيره .. تخيلته جالسًا على الكرسي المقابل يستمع في نفاد صبر ، ثم ينتفض مع ذكر الأطباء ويصرخ : فليذهب الأطباء بأسمائهم اللاتينية الحمقاء إلى الجحيم! إنه حزين يا سيدتي .. حزين وخائف .. مثلنا جميعًا في الحقيقة ..كلنا خائفون وتعساء .. وجميعنا نفعل الشيء نفسه؛ نهرب .. أنت يا سيدتي تحملين تلك الإبرة اللعينة وتحيكين، وأنت تقرأ كتابًا .. لماذا تقرأ !؟ أنا أعلم وأنت تعلم أنك خائف .. خائف وحزين .. لهذا تقرأ كي تهرب .. أنا أشرب النبيذ وأضاجع وأرقص .. وهو يقف أمام المرآة .. ليس مختلفًا .. إنه مثلنا جميعًا .. يبحث في تلك الصورة المبتسمة وخلفها عن عزاء ما ..
ابتسمت .. وقلت للعجوز الطيبة ذات الوجه المتعب: إنه مثلنا جميعًا .. يبحث في صورته المبتسمة عن عزاء ما .. عن تلك الروح الشفافة الخفية التي تهمس لنا ليلًا وتنساب في قلوبنا فنصبح أخفّ من الهواء .. وأخفّ من اللا شيء .. عن النجوم المضيئة التي ترقبنا ونرقبها .. عن الصوت المهيب الذي يتردد في أعماقنا فنعلم أن هذا ليس بعبث ..
مدّت يدها المغضنة وربتت على يدي ..